ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب)
إنه لجدير بنا أن نقف عند هذه الآية وقفة طويلة، فقد جمع الإمام السيوطي رحمه الله حولها كثيراً من النصوص والآثار في كتابه الدر المنثور ، فرأيت أن أذكرها لنتأمل جميعاً في معناها مع إيجاز فيما ينبغي الإيجاز فيه. وأول ما ذكر فيها هو الأقوال في سبب نزول هذه الآية العظيمة: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، فنقل نقولاً كثيرة عن المفسرين، ومن ذلك ما روي عن مجاهد فيما رواه سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم ، وهم أشهر من فسروا القرآن بالمأثور. فقد رووا عن مجاهد أنه قال: (قالت العرب: لا نبعث ولا نحاسب، فقد كانوا يقولون: إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر. فهذه أمنيتهم وظنهم بالله). قال: (وقالت اليهود و النصارى : (( لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ))[البقرة:111]، وقالوا: (( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ))[البقرة:80]، فأنزل الله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]). قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: (وأخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر عن مسروق قال: احتج المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم. وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم. فأنزل الله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]). وفي رواية أخرى عن مسروق رضي الله تعالى عنه أيضاً قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم. فأنزل الله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123]). وفي رواية قتادة تفصيل أكثر، حيث قال: (ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله -أي: هو الحاكم عليها والناسخ لها- قال: فأنزل الله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123] إلى قوله: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا ))[النساء:125] الآية، فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان) أي: بالآية الأخرى في سورة النساء التي سنعرض لها إن شاء الله، فهذه الآية أظهرت حجة المسلمين على أهل الكتاب. غير أن هنالك عبرة كبرى في نفي الله عز وجل الأماني في حق هذه الأمة كما نفاها في حق أهل الكتاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحابي؛ إذ ليس هو بحاجة إلى شيء من هذا، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا التقوى، فالمسألة ليست دعاوى تدعى أو شعارات تقال أو افتخاراً بالانتماء والانتساب، وإنما: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] وإن كان منتسباً إلى أشرف دين وأفضل رسول صلوات الله وسلامه عليه، فلا بد من أن يعرف الإنسان أنه مسئول عما يعمل، وأن الحساب يوم القيامة حساب فردي، فإن انتمى الإنسان أو انتسب أو انضم إلى أفضل فئة في الدنيا وأعلاها درجة عند الله؛ فإن ذلك لا ينفعه إلا أن يكون عمله صالحاً في نفسه. قال رحمه الله تعالى: (وأخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي قال: التقى ناس من المسلمين واليهود و النصارى ، فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم؛ ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً]، فانظر إلى طمع اليهود قبحهم الله، حتى إبراهيم عليه السلام جعلوه منهم، وقالوا: (( كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ))[البقرة:135]، وهذا ظن اليهود و النصارى . قال: [وقالت: النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فرد الله عليهم قولهم فقال: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، ثم فضل الله المؤمنين عليهم فقال: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النساء:125]]. قال: [وأخرج ابن جرير من طريق عبيد بن سليمان عن الضحاك قال: تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة : كتابنا أول كتاب وخيرها، ونبينا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل نحواً من ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم. فقضى الله بينهم فقال: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، ثم خير بين أهل الأديان ففضل أهل الفضل فقال: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ... ))[النساء:125]]، وفي وراية أخرى عن الضحاك مثل ذلك، لكنها أطول، وذكر فيها المجوس وكفار العرب. قال: [وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: [ قال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب؛ أنزل قبل كتابكم، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا. فقضى الله بينهم فقال: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ...) ] ]<\m>، وكذلك روي مثله عن أبي صالح، وذكر رواية أخرى عن مجاهد في قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)، قال: (في قريش وكعب بن الأشرف . يعني أن قوله تعالى: (أمانيكم) أي: أماني قريش، وقوله تعالى: (وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: أماني كعب بن الأشرف). ولكن ما تقدم من توارد الأسباب والتفسيرات عن السلف يدل على أنه وقع جدال وخصومة بين المسلمين وأهل الكتاب، ففصل الله تبارك وتعالى وقضى في هذه الخصومة وفي هذا الجدال بين المؤمنين وبين أهل الكتاب قال: (وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: [ إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، إن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل ]). وهذا يرويه بعض الناس ويرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه من كلام الحسن رضي الله تعالى عنه، وتدل عليه هذه الآية: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، هكذا حكم الله تبارك وتعالى.